اذا لم يكن لحراك احتجاجيّ شعبي ما سيطرةٌ على وسيلةٍ اعلامية تضمن له وصولَ رسالته وانتشارها وتوضيح مطالبه وتحرّكاته والرد على الاتهامات الموجهة له، فلن يتمكن من التحكم برسالته وهي التي تشكّل الدافع لاستمرار التحرّك وأيضًا لتعبئة الناس ضمن صفوف المحتجين.
كيف تخسر 'الثورات'" قبل بدئها؟"
أصبح واضحاً منذ الخريف العربي عام 2010، أنّ ما يصطلح على تسميته اليوم بـ"الثورات بلا قيادات" مآله حتمًا الى إحدى نتيجتين: إمّا أن تلعب القوى اليمينية الداعمة للإمبريالية لعبة مداورة السلطة وتبادل المناصب فلا يتحقّق بالتالي غير تغيير سطحي في السياسة الداخلية للبلد، كما حصل في كيبيك، مصر، تونس والسودان. وإمّا أن تستحيل البلاد ساحة لحرب كونترا ضدّ القوى اليمينية السلطوية تودي بالبلاد إلى ما آلت إليه ليبيا، سوريا واليمن.
ولكن ما يعيق إمكانية بلورة تغيير حقيقي كنتيجة لثورة بلا قيادة، ويترك الوضع مفتوحًا على الإحتمالين المذكورين حصرًا، عاملان: عدم امتلاك المحتجين لمحطة بثّ تلفزيوني ثوري تواكب الثورات وتضيء على رسائلها الحقيقية من جهة، وعدم وجود آلة سياسية على هيئة حزب أو تنظيم أو قيادة واضحة فاعلة في السلطة يمكن من خلالها الاستفادة من ضغط الجماهير للدفع باتجاه الاصلاح او التغيير المنشود. وبدون هذين الشرطين لا يتوقّعنّ أحدٌ تغييراً حقيقيّاً يمكن أن ينتج عن أي انتفاضة شعبية.
اذا لم يكن لحراك احتجاجيّ شعبي ما سيطرةٌ على وسيلةٍ اعلامية تضمن له وصولَ رسالته وانتشارها وتوضيح مطالبه وتحرّكاته والرد على الاتهامات الموجهة له، فلن يتمكن من التحكم برسالته وهي التي تشكّل الدافع لاستمرار التحرّك وأيضًا لتعبئة الناس ضمن صفوف المحتجين. كما أنّ فقدان القيادة السياسية الواضحة والملهمة للمحتجّين يعني أيضًا أنّ نتيجة الحراك ستكون في النهاية بيد الطبقة أو الفئة التي ثار الناس ضدّها.
في الكيبيك كان لحركة الاحتجاج بعض مظاهر التغطية الخاصة بها مع افتقارها الى غطاءٍ سياسي، فكانت النتيجة في نهاية المطاف سيطرة قوى اليمين على الحكم. في لبنان والعراق على السواء، الاحتجاج الشعبي لا يمتلك أدوات الإعلام ويفتقد القدرة على التأثير في الرأي العام عبر الميديا بشكل فعّال ومنافس للسلطة، كما ويفتقد الى الغطاء السياسيّ الموثوق الذي يراهن عليه في دعم مواقفه في أوساط الحكم. بالتالي نخلص الى القول بأنّ تَوقّعَ مُخرجاتٍ مغايرة لما حصل في الكيبيك او السودان او سوريا هنا او في العراق بالرغم من تشابه المدخلات هو ضرب من الغباء والجهل، وغالبًا من ينتج عن تبنّي سردية ميشال شيحا القائلة بأنّ لبنان استثناء.
عملت مديرًا تنفيذيًا لCUTV، وهي محطة تلفزيونية محليّة صغيرة في مونتريال - كندا بين عامي 2010 و 2013. كونت خلال تلك الفترة تجربة مهمة حول أهمية وسائل الإعلام الجماهيرية في التأثير على الرأي العام وإنجاح الثورات الشعبية. منذ حينها وأنا أعمل، بناءً على هذه التجربة، لدعم الحركات الشعبية والإحتجاجية حول العالم لا سيما في ما يخص التغطية الإعلامية، ومن بينها الاحتجاجات الشعبية الحالية في لبنان الذي أسكنه منذ العام 2018.
كيبك 2012
في سنة 2012 سيطر الحزب الليبرالي الفيدرالي على حكومة مقاطعة الكيبيك، وقام رئيس الحكومة جان تشارست بإقتراح رفع الرسوم المدرسية والجامعية بنسبة 75%. كمدير تنفيذي لمحطة CUTV، والتي يقع مقرّها في حرم جامعة كونكورديا الإنجليزية، وردتني إشاعات حول أنّ الطلاب ينوون تنظيم إضراب وطني عام. أشارت الأحداث التي مهّدت للإضراب أنّه سيكون مختلفًا عن ما اعتادت عليه البلاد من إضرابات واحتجاجات مرتبطة بقضايا إثنية (طلاب أصليين مقابل طلاب بيض) أو هوياتية لغوية (طلاب أنغلوفون مقابل طلاب فرانكوفون) أو بقضايا جزئية كمشكلة مع ادارة جامعة ما. هذه المرة كان الجميع صفّاً واحداً.
قرّرنا في المحطة الاعتراف بأنّ ما تشهده البلاد هو مقدّمة لاحتجاجات شعبية كبرى، وأنّه علينا أن نكون صوت هذه الثورة. بدأنا البحث عن أساليب تمكننا من مواكبة مطالب الشعب من قبل احتدام الوضع، حيث قررنا الحصول على تقنية البث الحيّ المحمول (عبر حقيبة الظهر) على أمل أن توفّر هذه التقنية فرصة لنقل الاحتجاجات وصوت الطلاب الغاضبين إلى الكيبيك كلّه بشكل مباشر. إطّلعنا على نموذج الجزيرة في تغطية الربيع العربي، كان اعتمادهم على المقاطع المصوّرة المرسلة إليهم وعلى كاميرات مثبتة على أعمدة في وسط الساحات التي ضمّت المظاهرات والتجمّعات. وكان بين أيدينا كذلك حركة "احتّلوا وول ستريت" في نيويورك، والتي انتشرت عبر البث الحي المباشر منخفض الجودة من خلال الهواتف المحمولة. كنّا نتطلّع الى تجاوز هذه النماذج ومشاكلها عبر ادخال تقنية البث الحي المحمول عالي الجودة.
على عكس البثّ المباشر التقليدي عبر سيّارة البثّ التابع للقناة التي تحمل صحن الاستقبال وعامود الارسال الى القمر الصناعي، والتي تكون الكاميرا متصلة بها عبر الأسلاك، فإنّ شنطة الظهر غير قابلة للاتصال بالقمر الاصطناعي. الطريقة الوحيدة كانت البثّ عبر الانترنت من الشبكات الخلوية. استأجرنا المعدّات قبل أشهر من بدء الإضراب للتدرّب عليها من قبل طواقم عمل القناة ولاختبارها وتعديلها بما يتناسب مع حاجتنا. من خلال هذا العمل تمكنّا من تغطية الإضراب ببثّ حيّ عالي الوضوح من الأرض مع مقابلات وشرح للأوضاع باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
هذا البثّ المفتوح خلق ما يمكننا تسميته بغرفة صدى للثورة حيث كانت المظاهرات تتّسع من الأرض إلى الإعلام والفضاء الافتراضي وتصل إلى أكبر نسبة من الناس الذين كانوا ينضمون أكثر فأكثر إلى المظاهرات.كنا نبثّ ثماني ساعات في اليوم خلال اضراب دام ستة أشهر؛ كان هذا الاضراب الأطول في تاريخ كيبيك وكندا.
في غضون أسابيع كان بثّنا عبر النت يستقطب حوالي 150 ألف مشاهد، وكان موقعنا على الويب يسجل حوالي 2.5 مليون زائر يوميّاً. في المقابل، لم توقف وسائل الاعلام الرئيسية ومحطات التلفزة الاخبارية غير المهتمّة بتضخيم المظاهرات برامجها. فقد حافظت على برنامجها المعتاد وقامت بتغطية الاحتجاجات فقط خلال النشرات المنتظمة أي ثلاث مرات في اليوم. ووفقًا لإحصائيات المشاهدين، كان الحد الأقصى لعدد المشاهدين الذي حصل عليه مذيعوا الأخبار في الكيبيك بشكل متزامن في أفضل الأحوال 10 آلاف مشاهد. هذا يعني أن CUTV كان يتحكّم في سرديّة الحدث وصياغة المشهد، بينما كانت وسائل الإعلام الأخرى كانت تقف منفعلة أمام ما يحصل. بعد سنة أشهر تخلّلها آلاف الإعتقالات وعشرات الجرحى وهجمات يومية من قبل الشرطة على طلاب الجامعات المضربين (وعلى فريق البثّ التابع لنا) قدّمت الحكومة الستقالتها ودعت الى انتخابات مبكرة.
بعد هذا المنعطف فقدت حركة الإحتجاج الشعبية في الكيبيك السيطرة على المشهد، ببساطة لكونها تفتقر إلى العنصر الضروري الثاني: الأداة السياسية. لم يكن لدى المحتجّين حزب سياسي له هيكلية وقيادة ليدخلهم في السلطة. ومثل العديد من حركات الإحتجاج حول العالم لا سيما منذ الخريف العربي، رفض شباب الكيبيك انتخاب قيادة تمثّلهم، فلم يقدّموا للناخبين بديلًا عن الأحزاب التقليدية في الإنتخابات. استفاد الحزب الانفصالي الفرنسي المتطرّف "Parti Quebecois" من لحظة الفراغ السياسي واجتاح الانتخابات.
لبنان 2019
في حين أن تمرّد الكيبيك عام 2012 حظي بامتياز تغطية إعلامية ساهمت بتظهير المشهد كما يراه المحتجّون ونقل صوتهم للرأي العام في الكيبيك وخارجه، لم يكن للمتظاهرين في لبنان مثل هذه الفرصة.
عندما وصلت إلى بيروت في منتصف عام 2018، تم الإتصال بي على الفور من قبل بعض الأحزاب اليسارية ووسائل إعلام مرتبطة بها. عقدتُ عشرات الإجتماعات وكانت خلاصة استنتاجاتي وتوصياتي هي التالية:
- لبنان على حافة الهاوية
- الحرب في سوريا أخّرت أي تمرّد داخلي لكنها لم تلغه
- الجولة الأخيرة من المظاهرات التي اندلعت عام 2015 بسبب أزمة القمامة تؤشّر أنّ الوضع على عتبة الإنفجار الداخلي.
- يجب على وسائل الإعلام التي ترى نفسها في صفّ المحتجّين الحصول على تقنية البثّ الحيّ المحمول وتدريب طواقمها على استعمالها.
بالرغم من الإنطباع الجيّد الذي كوّنته خلال هذه الإجتماعات حول التوجّه نحو تطوير القدرة الإعلامية لهذه القنوات، لكن مع بدأ المظاهرات كان واضحًا أنّ "اليسار" بشكل عام والقوى المناهضة للامبريالية والتي تدّعي تمثيل "الشعب" والطبقات الفقيرة فشلت في الإستعداد. في المقابل كانت وسائل الإعلام الليبرالية واليمينية على استعداد جيّد للثورة المحتملة.
تمكّنا في الكيبيك من استباق الحدث تقنيًّا وبشريًّا بسبب علمنا المسبق بأن التحضير للإضراب العام جارٍ. في الاحتجاجات الأخيرة كان لدى الجديد ثماني وحدات بثّ محمولة تعمل متوزّعة على أنحاء البلاد، وكان لدى ال MTV ستّ وحدات مع الطاقم المدرّب للعمل عليها.
قامت الجديد والMTV بما لم يسبق له مثيل في أي بلد من حيث تغطية الاحتجاجات الشعبية: محطّات تلفزيونية مملوكة لشركات خاصة تبغي الربح تقوم بتعليق جميع البرامج العادية والإعلانات المدفوعة مسبقًا وفتح الهواء أمام البثّ المباشر لمدّة تصل إلى ثماني ساعات في اليوم.
تبلغ تكلفة كل وحدة بثّ مباشر 1000 دولار على الأقل لكلّ 30 ساعة من البثّ. يمكن للمحطات شراء الوحدات مع معدّاتها، لكنّ القضيّة تكمن في أنّ البثّ يتمّ عبر التحميل على الانترنت باستخدام شبكة الخلوي. التصوير عالي الدقة HD يحتاج الى بطاقات SIM خاصة تكون فيها منافذ التحميل مفتوحة بأقصى قدرة، وهذا ما لا يصعب على شركات الخلوي المسيّسة في لبنان التحكم به. عادةً يتم استئجار هذه الوحدات، حيث تكون الشركة الوكيلة قد فاوضت على امتلاك بطاقات SIM الخاصة بالبثّ المفتوح، وتؤجّرها مع المعدّات. كذلك فإنّ معظم المحطات لا ترغب في تجميد هذه الأجهزة لديها بانتظار حدث ما، بل تفضّل استئجارها عند الحاجة. وبحساب بسيط، آخذين قناة الجديد مثالًا، فإنّ كل 30 ساعة بثّ تكلّف حوالي 1000 دولار، وقد أبقت الجديد هواءها مفتوحًا ومن عدة أماكن متزامنة وصلت إلى ستة في أوقات الذروة، لثماني ساعات في اليوم على امتداد فترة الأحداث أي حوالي الشهرين، فإنّ كلفة استئجار الوحدة تكون 16000 دولار. ويبلغ متوسط راتب الصحفي مشغل الكاميرا في لبنان حوالي 2000 دولار لكل 40 ساعة عمل، والفريق أقلّه ثلاثة، فتكون تكلفة إبقاء الهواء مفتوحًا من وحدة بث حوالي 72000 دولار رواتب و16000 دولار استئجار معدات أي بمجموع حوالي 88000 دولار. واذا أردنا حساب تكلفة عمل 8 وحدات كانت على الأرض نجد أنّ تكاليف البث المباشر عبر الخلوي وحده يكلّف القناة ما يقارب ال700,000 دولار. هذا كلّه أضف إليه البث الثابت من شاحنات البث الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية والطائرات دون طيار وتشغيل الاستوديو بأقصى طاقته البشرية والتقنية، كما ولا يمكن إهمال حساب الإيرادات المفقودة للقناة من الإعلانات المدفوعة وعروض الدراما النتجة مسبقًا والمدفوعة، فيصبح من الواضح أن هذه العملية كلفت المحطات ملايين الدولارات.
لماذا تتحمل محطّات تملكها شركات تبغي الربح مثل هذه التكاليف الباهظة؟ هل المكاسب السياسية كانت تحرّك هذه القنوات، أم مكاسب مالية خارجية، أم الإثنين معًا؟ فقد كان من الواضح أنّ هذه الوسائل أرادت للمظاهرات أن تستمر، كما وأرادت التحكّم في رسالة هذه المظاهرات وشعاراتها وتوجيه الرأي العام الغاضب نحو قضايا محدّدة.
فلنقارن بين احتجاجات لبنان وما حصل في الولايات المتحدة الأميركية من أحداث مرتبطة بحركة Black Lives Matter، أو ما حصل في فرنسا من أحداث مرتبطة بحركة السترات الصفراء وغيرها من الحراكات في العديد من البلدان الغنية والقوية. في تلك البلدان لم تقم أي وسائل إعلام، سواءً أكانت مملوكة لشركات أو ترعاها الحكومة، بتعليق برامجها المعتادة أو فتح الهواء للبث المباشر عبر الهاتف المحمول على قنواتها لتغطي حركات الاحتجاج الشعبي. في هذه المفارقة مؤيّد لطرح أنّ دوافع خاصة كانت خلف قيام هذه المحطات بهكذا تغطية.
لم تتمكّن القوى التقدّمية في لبنان من استيعاب هذا الواقع في الوقت المناسب، فسمحت لحركاتها وقواعدها، أقلّه في البداية، أن تكون مشاركًا مُستلب الإرادة في حراك كانت تديره من خلف الكواليس وسائل إعلامية تابعة لقوى السلطة وقوى خارجية مؤثّرة في الداخل اللبناني.
وكان لتبنّي العديد من هذه القوى شعار "كلّن يعني كلّن"، والذي جرى التسويق له إعلاميّاً بشكل ضخم، جعل هؤلاء واقعًا في صفّ أعدائهم. لقد ساوى هذا الشعار بين جميع أحزاب البلد السياسية من جهة المشاركة في الفساد الإداري وفي إفقار الشعب اللبناني على مدى العقود الماضية، رافضًا تحييد أي جهة عن الإتهام بما في ذلك حزب الله. أًصبح الجوّ العام لدى أحزاب اليسار يتقبّل إتّهام المقاومة بالفساد ولو بشكل أوّلي وعلى ذمّة التحقيق، ويضعها في موازاة القوى السياسية الأخرى. لقد حوّل هذا الشعار، والذي أًصبح بلا مبالغة شعار الثوار الأوّل، الثورة من مواجهة القوى الفاسدة سماسرة الإمبريالية العالمية في البلاد إلى مواجهة أعداء هؤلاء أنفسهم. اختلط اليسار باليمين والوطني بالخارجي وصار من الصعب تحديد قواعد الأطراف السياسية التقليدية عندما تكون مشاركة في الحراك.
في عالم تحكمه إمبراطوريّات وسائل الإعلام العالمية بمختلف وسائطها ومنصاتها، فإنّ أيّ حراك بلا قيادة واضحة لها حضورها السياسي ويتحكّم بوسيلة إعلام حرّة قادرة على إيصال الرسالة الصحيحة وبشكل قوي وتقنية مناسبة محكوم بأن يصبح ألعوبة بيد من يملكون هذه الأدوات. التصديق بعكس هذا الكلام والإصرار على ثورة دون قيادة وتساوي بين جميع القوى في البلاد، برأيي وخبرتي الشخصية، هو في أفضل الأحوال قصر نظر ووهم يعني فشل الثورة، بل ربما أسوء بأن تصبح الثورة الصادقة النابعة من وجع الناس ألعوبة يتحكّم بها المسؤولون عن شقائهم ووجعهم.
(ترجمة: هادي حطيط)
"Related Posts
كاتب وأستاذ جامعي أردني